إضغط هنا للإطلاع على تقرير مفصل حول المناسبة
ركض بأقصى سرعة إلى البيت، وعندما وصل عند الباب أمسك مقبض الباب، ثم أفلته. نزل أسفل السلم طأطأ رأسه فوضع كلتا يديه على رأسه. بكى كثيرا. بعد مدة نهض ودخل وعيناه حمراوان من البكاء. لم يستطع أن يمنع دموعه من الانهمار. باب غرفة مها مفتوح، وقف ونظر إليها ما زالت ترفع كفيها تدعو. كـانت منغمسة في الدعاء. يلـهج لسانُها بـكلمات الشـكر والحمـد والثـناء. أحسـت بخيال يـقف. التـفتت.. سعيد أنـت؟ رفعت سجادتـها. سعيـد تسـمّر في مكانه لـم يـتحرك فـيه إلا ذاك الدمـع يجري علـى خديـه. تقدمــــــت مـها خطـوة إلـى سعـيد ما رأيك ؟ .... لـم تكـمل حديثها حين نــظرت إلـى وجـه ســـعيد الذي غطّته الدمـوع. خـــــفق قـــــلبها تسـمّرت هــي الأخرى في مـكانها. تبـعثرت الحروف فـلم تستطع لــــــــفظ الـكلمات. تقدم إلـيها وضمّها، أمــــي وأبــــي في ذمــة الله. ابتعد قلـيلا عنـها، ووقـعت مغشـــيًّا علـيها.
مرت خــمسة أيام، خــرج جمــيع المـعزين. وقــــف أمـام بـاب غرفتـها كانـــت مـمددة علــى السـرير. استأذنها بالدخول، عدّلت جلستها. جلسـت وجلس بجانبها. قــال لــــــها: يـجب أن تسافري غــدا إلى عمّتـك. أسافر؟ قالت متعجبة. هل نحــن فــــــي وضـع يسـمح لـلسفر؟
قال:أقصد أنت وحدك من عليك السفر.
اسمعي، لقد ظهر اسمي ضمن الطلاب الذين قدّموا للدراسة في الخارج. متـى قدمـتَ؟ كنت سأخبر أبي، ولكن لم تحن فرصة مناسبة؛ لذلك يجب أن تقيمي عند العمة عبير. لا يمكنك العيش هنا وحدك. قالت: كيف سأعيش في بلاد غريبة وحدي بـدونك؟! أرجوكِ يا أختي إنها فرصتي وحلمي لا تحرميني منها بعنادك. يبدو أنك خططت وقررت كل شيء. نهض، وقال هذا من أجل صالحك. نزلت من سريرها، وجلست على الأرض. ألصقت ساقيها بصدرها ولفت يديها بهما، وانخرطت في بكاء مرير. تعيد في ذاكرتها الأحداث التي شاء القدر أن يحملها إليهم. لم تحزنها الحقيبة التي لم تحزم بعد، ولا تلك التفاصيل الصغيرة المتعلقة بالسفر التي زادتها حماسة وفرحا، تبحث عنها بين أحبتها. المؤلم في الأمر كيف يمكن لابن أن يتجاهل كلمات قالها الأب منذ أيام أشبه بالوصية. الأب الذي عاش كل حياته وهو يتمنى رؤية ابن من صلبه يعطيه كل حياته. كيف لذلك الابن ألا يحفظ جوهرة أبيه، وفوق كل هذا يعاتب أخته، ويلومها أنها السبب في ضياع حلمه.
إن ضاع حلمك يا أخي قد تأتي بحلم آخر، ولكن إن ضاع أخي فمن أين آتي بأخ غيرك؟! – تتساءل في نفسها -. وضعت رأسها على السرير وهي جالسة فغالبها النوم.
سيدتي هذا ليس مقعدك. قالت المضيفة، إنه مقعد الآنسة، أعتذر لم أنتبه. قامت من مقعدها، تفضلي بالجلوس، نافذة صغيرة على جانبها والمقعد الذي بالجانب الآخر خالٍ هي لم تشعر أن مقعدها مميز بل هي لم تشعر بشيء منذ أن غادرت قريتها، هي لم تهتم إذا كان مقعدها بجانب النافذة أم لا، فظلام الحزن الذي سكن قلبها لن يضيء بخيط من شعاع الشمس يخترق نافذتها، تجاوزت كل الأحاسيس التي يمكن أن يشعر بها أي شخص يركب الطائرة أول مرة في حياته.
حركت رأسها قليلا، نظرت من تلك النافذة الصغيرة، سرحت قليلا وغاصت في خيالها، ماذا لو أدخل من هذه النافذة وأعود إلى الماضي أمسك بيد أبي إلى دكان العم صالح نتبادل النظرات ونضحك في كل مرة تقع عيني فـــــــــي عيـــــــنه، آنسة يا آنســــــــة، قطع الصـــــوت خيالها، أشـــــاحت بوجـــهها إلى الجـانب الآخـر فإذا المضــــــــيفة واقـفة تتحـــــــدث إلـــــــــيها، حركـــــت مها شفتـــيها، وارتـــــــــسمت ابـــــتسـامــــــة خفيـــــفة، لـــــــــم تغـير ذاك الوجــــــــــه الحزيــــــــــــن الشاحــــب، بعكس المضيـفة التي ارتسمت علـى وجهها ابتسامة عريضة، قائلة: تفضلي الطعام، واصلت المضيفة تقديم الطعام لباقي الركاب.
عادت مها إلى صمتها، حتى أنها لــــــــــم تشعر بالمضـــــيفة وهـي تجـمع بقـــــايا الطعـــام.
الصمت أطبق على شفتيها، وأخذت أحزانها تتنافس وتتنازع فيما بينها، إن فقد الوالدين الألم الأكبر، رد الحزن الآخر، هذه حكمة الله، بل المجهول أكثر ألمًا، رد حزن ثالث، ربما المجهول يأتي جميلا، ولكن رحيل الأخ ألمٌ صادم.
تلفتت هنا وهناك وهي واقفة تنتظر حقائبها، إحساس الغربة تسلل إليها واصطاد ضعفها، مدت يدها، أمسكت الحقيبة، قبل أن تضعها على الأرض صرخت في وجهها امرأة: هل أنت عمياء أم سارقة أم غبية؟ أعتذر أنا.... نزعت الحقيبة من يدها بقوة وذهبت وهي تتمتم: غبية عمياء، أخذت حقائبها وسارت في دربها، دمعة نزلت كأنها قطرة تستبق سيلا يجرف أياما سوداء تصطدم مع حياة مها وتقلبها رأسا على عقب، أدخلت يدها في جيب ثوبها وأخرجت ورقة بمثابة اليانصيب الذي يحدد مصيرها الغامض، تلك الورقة التي احتفظت بها لتكون دليلها إلى بيتها الجديد، نسمة خفيفة شعرت بها وهي تقف على الرصيف تنتظر سيارة الأجرة، صعدت السيارة ناولت السائق الورقة: أريد أن أذهب إلى هذا العنوان، قرأ السائق قاطعته قائلة: هل تعرف المكان؟ رد قائلا: يا آنسة، لدي معرفة بكل الطرق والأماكن، كان السائق صادقا فقد أوصل مها إلى العنوان الصحيح.
أوقف سيارته، نزلت، تفضلي هذه حقائبك قال السائق، سحبت مها الحقائب إلى حارس العمارة الذي كان جالسا على كرسي خشبي، رجل في الستين من عمره اشتعل رأسه شيبا وجلده تجعد يزوره الوسن برهة وتوقظه أصوات أهل العمارة، اقتربت منه: السلام عليكم، رد عليها: وعليكم السلام أهلا وسهلا عند من ستنزلين ضيفة؟ اندهشت مها من سؤال الحارس، وما أدراك أني ضيفة، ربما أكون مستأجرة، قال: لأن كل شقق العمارة مسكونة، هزت رأسها وأردفت قائلة: أريد منزل عبير، رد قائلا: أي عبير منهما؟، ظلت صامتة برهة، عبير طاهر، تذكرت أن جدها يحمل اسم طاهر.
أنا أعتذر منكِ، لا أعرف اسم والديهما، لكن أعرف أوصافهما، فعبير التي تسكن الطابق الثالث سمينة وتلبس نظارة وتلبس حجابًا مثلك، أما عبير التي في الطابق الخامس فجسمها وسط ليست سمينة ولا نحيفة، ولا تلبس نظارة ولا حجابًا، فأي واحدة تريدين؟
لا أعرف، لأني لم أر عبيرًا في حياتي، يا ابنتي، إن أمرك غريب، هل لديك شيء حتى ولو كان صغيرا يدلني عليها، عادت إلى صمتها .... تذكرت قال لي أبي إنها تحمل شامة صغيرة في أحد حاجبيها، إذن عبير التي في الطابق الخامس، سألها والدهشة في عينيه: هل أنت متأكدة أنها التي تحمل شامة؟ لا عليك هيا إلى المصعد، تفضلي، هذه هي الشقة، شكرا لك، السلام عليكِ، رفع يده وهو يقولها، ودخل المصعد، نظرت إليه إلى أن غادر، وهي ما زالت متعجبة من سؤاله، شعرت أنه يقصد أمرًا.
أشاحت بوجهها إلى باب الشقة ونظرت إليه، مَن منّا لا يخاف المجهول، هذا ما أحست به مها، ولكن يجب أن تطرق الباب لتعرف المجهول وإلا سيبقى مجهولا، مدّت يدها، وضغطت على مفتاح الجرس، لم تنتظر طويلا، بل إنها لم تحاول أن تضغط على المفتاح مرة أخرى، فالصوت جاء بسرعة أنا آتية، خفق قلب مها بشدة وسرعة، فُتح الباب، ابتسامة عريضة كانت في استقبالها أهلا وسهلا، نعم، صمتت مها تفكر هل تقول
أنا ابنة أخيك أم أنت عبير طاهر؟ حتى أنها نسيت إلقاء التحية، رتبت أفكارها بسرعة، السلام عليكم هل أنت عبير طاهر؟، نعم، صمتت برهة نعم أنا هي، تأتأت مها في الكلام، أنا ابنة أخيك عادل، ضمتها بدون وعي، جذبتها إليها بقوة، قالت معتذرة من مها: هذه دموع الفرح، التفتت هنا وهناك، هل والدك في الأسفل؟ بكت هي الأخرى، أبي وأمي توفيا في حادث سير قبل بضعة أيام، ضمّتها مرة أخرى، تعزيها وتعزي نفسها، بفقد أخيها، تفضلي بالدخول، اتركي الحقائب أنا سأدخلها، وقفت في الصالة، الشقة أكبر من بيتنا، ولكن شعرت أن الشقة مظلمة كئيبة ليس فيها روح، على الرغم من وجود مصابيح كثيرة كأن أشعة الشمس لم تخترق نوافذها أبدا، كل هذا تبدل حين رأت تمثال المسيح المصلوب معلقًا في زاوية من الشقة.
ربما الآن فهمت ماذا كان يقصد الحارس بسؤاله، لقد أدخلت الحقائب إلى الغرفة، تعالي لكي ترتاحي، إذا احتجتِ شيئا أخبريني، لم تستطع النوم، قامت بإفراغ حقائبها، سمعت أصواتًا خارج غرفتها، لم تميزها، هل ضحكات أم مناقشات، فصاح صوت: يا امرأة، خافت مها أن يفتح باب غرفتها وهو يبحث عن عمتها، أسرعت بإقفاله، أجابت عمتها: ماذا تريد؟ قال: جهزي لنا بعض الطعام فرفاقي هنا، حسنا، قالت وهي غاضبة، كانت عبير لا تعجبها تصرفات زوجها نعيم، حين يحضر رفاقه للسهر في منزلها، سمعت الباب يطرق نعم من؟ أنا عمتك افتحي الباب، أنا آسفة لقد أقفلت الباب حين سمعت أصواتًا، خيرا فعلتِ، إنه زوجي يسهر هو ورفاقه، لم أخبره عنك؛ لأن الوقت غير مناسب، سنتناول العشاء معا ثم نامي، يبدو أنك لم تستريحي.
قامت، توضأت، فرشت سجادتها، كان ذلك كفيلا أن يشعرها بالراحة التي لم تشعر بها بين جدران هذا البيت الذي عُلّق فيه تمثال المسيح، حتى عمتها التي بدت لطيفة وحنونة لم تُشعرها بالأمان، فصراخ زوجها عليها ومعاملته لها أرعبها، وجعلها تشعر أن عمتها مغلوبة على أمرها، مرّت العمة بجانب غرفتها، لتحضر بعض الماء، كان الوقت فجرا، مصباح غرفة مها مضاء، شعرت بالقلق، طرقت الباب، لكن قلقها جعلها تفتح الباب، وقفت وصمتت حين نظرت إلى مها وهي تصلي، تلك الحركات التي لم ترها عبير منذ زمن بعيد جدا، أقفلت الباب.
صرخ في وجهها كعادته: لماذا لم تخبريني أن في البيت ضيفة؟
ردت عليه: وكيف أخبرك وأنت مع رفاقك؟ وكيف أخبرك وأنت بلا عقل؟ وكيف أخبرك وأنت نائم حتى الواحدة؟ نهض بسرعة، أريد أن أراها، أتعرف إليها، فهي ستعيش في بيتي، حسنا، سأذهب لأناديها، لبست حجابها، سترت نفسها، خرجت من غرفتها، عيناها على الأرض، السلام عليكم، هز رأسه، أنتِ إذن ابنة أخي عبير، أنا شاكرة استقبالك لي في منزلك، وأرجو أن أكون ضيفة خفيفة عليكما.
ما هذا الكلام يا مها، البيت بيتك، قالت العمّة، أما زوجها فأكلت عيناه مها!
أليس جميلا؟ قالت: العمة عبير حين دخلت غرفتها، ردت مها ما هو الجميل؟ قالت العمة: التمثال الذي كنتِ تنظرين إليه، أنا خجلة منك فهذا البيت ليس بيتي، ولكن أنا غير مرتاحة، وهو في غرفتي، قالت العمّة: ألا تؤمنين بالمسيح؟ بلى، ولكن إيماني به غير إيمانك به، كيف؟ أنا أومن أنه رسول من الرسل جاء بما جاء به الرسل من قبله ومن بعده، عبادة الله وحده.
عمتي، أعتذر منك، فأنا لا أستطيع أن أخوض معكِ في هذا الأمر الآن، سأخرج التمثال من الغرفة حتى تكوني مرتاحة في صلاتك، هل تعرفين الصلاة يا عمتي؟ طبعا، كنت أرى جدتك وأبي... يا امرأة يا امرأة أين أنتِ يا تعيسة، ماذا تريد؟ أريد أن تطبخي وليمة كبيرة، لكن لا أستطيع، أنت تعرف أن حالتي لا تسمح، ستساعدك ابنة اخيك، سأذهب لأخبرها قال نعيم، ولكن...، اصمتي يا امرأة وإلا...
أراد أن يدخل دون أن يطرق الباب، ولكن الباب كان مقفلا، طرق الباب، أنا زوج عمتك، فتحت الباب، أخفضت رأسها إلى الأرض، أما هو فنظر إليها من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، تلك النظرة المليئة بالشهوة، خيرا ماذا تريد؟ أريدك أن تساعدي عمتك في إعداد الطعام، تعالي إلى المطبخ، جلس في الكرسي يقطّع السلطة، وينظر إلى مها التي كانت واقفة تقطّع البصل، وهو يتربص بكل حركة تقوم بها ليقتنص فرصة يرتفع فيها كُمُّها.
على الرغم أن مها كانت لا تخرج من غرفتها، إلا أن زوج عمتها كان يترصد لها، شعرت بذلك، خافت أن تخبر عمتها حتى لا تقع في مشكلة، وعلى الرغم من أن عبيرًا قالت لزوجها لا تحضر رفاقك إلى البيت إلا أنه عاند وأخذ يسهر أكثر من ذي قبل، شيطان هذا الرجل لم يهدأ، وشهوته الحيوانية اندفعت حين تسلل إلى البيت وهو يعلم أن زوجته ليست فيه، أسرع إلى غرفتها لم يجدها، هي رأته واقفًا عند باب الغرفة، كانت آتية من المخزن، تسمّرت مكانها، وهو يتأفف من حظه العاثر، خرج من البيت، وهي دخلت غرفتها، وأقفلت الباب.
إضغط هنا للإطلاع على تقرير مفصل حول المناسبة
تصميم و تركيب واستضافة السيّد: أولاد الحاج إبراهيم إبراهيم بريد إلكتروني: ohbrahim@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة
التعليقات على المقالة 2
هاجر بوقنارة2م26/6/2024
انفال نجيمة قسم 2م1 25/5/2024